10918,51%-1,07
42,42% 0,01
49,44% -0,23
5749,73% -0,04
9299,63% 0,00
عام على «ردع العدوان»… المعركة التي غيّرت سوريا وأنهت نصف قرن من القمع
الدكتور مختار فاتح
عملية عسكرية أنهت عقوداً من حكم البعث وفتحت أمام السوريين أبواب ولادة جديدة
بعد فجر السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لم تعد سوريا هي نفسها. فمع انطلاق معركة «ردع العدوان» بدأت اللحظة التي طال انتظارها طوال أربعة عشر عاماً من الثورة والحرب والانقسام. وخلال اثني عشر يوماً فقط، انهار نظام بشار الأسد على نحو غير مسبوق، وتحررت المحافظات تباعاً، قبل دخول المقاتلين العاصمة دمشق فجر الثامن من ديسمبر/كانون الأول وإعلان نهاية النظام وفرار رئيسه إلى موسكو.
ومع حلول الذكرى السنوية الأولى لهذه العملية الفاصلة، يستعيد السوريون تفاصيل المعركة التي أنهت 61 عاماً من حكم حزب البعث، و53 عاماً من سيطرة عائلة الأسد، وبدأت مساراً جديداً نحو بناء دولة مؤسسات وديمقراطية ناشئة، بعد عقود من الاستبداد والقمع.
الشرارة الأولى: من ريف حلب إلى سراقب
انطلقت العملية من ريف حلب الغربي ردّاً على قصف مدفعي مكثف نفّذه جيش النظام السابق وحلفاؤه ضد مناطق إدلب، وأسفر عن سقوط عشرات المدنيين. كانت الفصائل قد شكّلت قبل المعركة إدارة العمليات المشتركة التي ضمّت «هيئة تحرير الشام» و«حركة أحرار الشام» و«الجبهة الوطنية للتحرير».
شكل اليوم الأول مفاجأة للنظام وحلفائه؛ إذ سيطر المقاتلون على 18 قرية في غرب حلب وتقدموا سريعاً نحو الطريق الدولي بين حلب ودمشق لقطع الإمدادات. وفي اليوم التالي، شهد محور سراقب تحولاً حاسماً، إذ تمكن المقاتلون من تحرير أكثر من 50 بلدة وقرية وقطع أحد أهم شرايين النظام الاقتصادية والعسكرية.
وفي 30 نوفمبر، سقطت سراقب بالكامل، تزامناً مع انهيارات واسعة داخل أحياء مدينة حلب التي شهدت معارك حاسمة وانسحابات مرتبكة لقوات النظام لصالح قوات «بي كي كي/واي بي جي».
تحرير حلب… الهزّة الكبرى التي أسقطت هيبة النظام
مطلع ديسمبر، أعلن المقاتلون السيطرة الكاملة على مدينة حلب، في تحول عسكري فاجأ الجميع. وترافق التحرير مع دخول منظم للمقاتلين وانتشارهم لحماية مؤسسات الدولة وطمأنة المدنيين، ما عزز ثقة المجتمع المحلي ودفع النظام إلى التراجع نحو حماة وسط البلاد.
حماة وحمص: انهيار متسلسل
بعد حلب، انطلقت المعركة نحو حماة. وتمكنت الفصائل خلال خمسة أيام فقط من السيطرة على ريف حماة الشمالي، بما في ذلك صوران وطيبة الإمام، ثم خاضت المعركة الأصعب على جبل العابدين، آخر خطوط دفاع النظام عن حماة وحمص.
ومع سقوط الجبل، انهار النظام ودخلت القوات مدينة حماة في 5 ديسمبر، ما وضع قواته في حمص تحت ضغط شديد.
في الوقت ذاته، كانت القوات الروسية تستهدف جسور الرستن لمنع تقدم الثوار، لكن المقاتلين تجاوزوا العوائق ودخلوا أرياف حمص، وسط حالة قلق غير مسبوقة في دمشق.
درعا والسويداء… عودة الثورة من مهدها
رغم عدم اتصالها الجغرافي بجبهات الشمال، التحمت درعا بالمعركة، وحرر المقاتلون المدينة في 7 ديسمبر خلال ساعات معدودة. وانتقلت موجة الانهيار إلى السويداء، حيث سيطر المقاتلون على مركز المدينة، لتتحرر المحافظتان في أقل من 24 ساعة، وتبدأ منهما عملية تضييق الخناق على العاصمة.
حصار دمشق… ولحظة السقوط
مع فجر 8 ديسمبر/كانون الأول، دخل المقاتلون العاصمة دمشق. وفي الساعة 06:18 صباحاً، أعلن رسمياً عن سقوط النظام. وفي مساء اليوم ذاته، ظهر بشار الأسد في موسكو معلناً طلب «اللجوء الإنساني».
وكانت مأساة صيدنايا من أكثر اللحظات ألماً؛ إذ خرج آلاف المعتقلين من السجن بينما تبين لاحقاً أن آلافاً غيرهم قضوا تحت التعذيب والإعدام.
قوات سوريا الديمقراطية (قسد)… حسابات معقدة خلال المعركة
شهدت الساحة السورية خلال عملية «ردع العدوان» تحركات مثيرة للجدل من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي حاولت استغلال الفراغ الناجم عن انهيار النظام للتوسع في عدد من المناطق.
في الشمال
تحركت قسد من منبج باتجاه مطار حلب الدولي لخلق إرباك على خطوط المعارضة، لكن فصائل الثورة تدخلت سريعاً وأفشلت الهجوم، لتتراجع قسد بعد فقدان جبل رفعت.
في الشرق
سيطرت قسد على دير الزور مؤقتاً مستغلة الانسحاب المفاجئ لقوات النظام، لكنها أبقت لاحقاً على وجود محدود في سبع قرى شرق الفرات، في ظل استمرار خلافاتها مع الحكومة السورية الجديدة.
التحولات الدبلوماسية… سوريا تعود إلى العالم
أطلقت الدولة السورية الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، دبلوماسية نشطة وغير مسبوقة بعد سقوط النظام. وقد مثّلت هذه السياسة نقطة تحول في صورة سوريا، ونجحت خلال أشهر قليلة في فك العزلة التي امتدت لأكثر من عقد.
تعزيز العلاقات مع واشنطن
بعد زيارة الشرع إلى الولايات المتحدة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب استعداده لزيارة متبادلة إلى دمشق، في خطوة اعتبرها مراقبون بداية مسار جديد في العلاقات السورية–الأميركية.
انفتاح على الصين
وصل وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى بكين، في أول زيارة رسمية بعد التغيير، رغم التحفظ الصيني على مشروع قرار أميركي لرفع العقوبات.
توازن دقيق مع موسكو
أكدت دمشق أنها لا تنوي الالتزام باتفاقيات النظام السابق مع روسيا، وأن العلاقة الحالية تقوم على «التدرج المدروس»، مع رفض أي تنازل يمس الحقوق الوطنية.
لحظة فارقة في الشرق الأوسط والقوقاز
لم تكن زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى جمهورية أذربيجان حدثاً بروتوكولياً عادياً، بل محطة مفصلية في مسار العلاقات بين بلدين جمعتهما جغرافيا السياسة، وتشابهُ التجارب، ووحدةُ التحديات خلال العقدين الماضيين. فدمشق التي تعيش مرحلة إعادة بناء الدولة بعد سقوط النظام السابق، تبحث عن شركاء قادرين على تقديم نموذج ناجح في الانتقال، فيما تمثل باكو واحدة من أكثر الدول التي استطاعت إدارة توازناتها الإقليمية بكفاءة، والانطلاق من رماد الحروب نحو اقتصاد صاعد ودور دبلوماسي مؤثر.
في المقابل، تنظر أذربيجان إلى سوريا الجديدة باعتبارها بوابة الشرق الأوسط، وصلةً بين أوراسيا والمجال العربي، وشريكاً ثقافياً يمتلك عمقاً اجتماعياً مهماً عبر تركمان سوريا الذين يشكلون جسراً طبيعياً بين الشعبين.
من هنا، جاءت الزيارة ــ رمزاً ومعنى ــ إعلاناً لافتتاح صفحة استراتيجية عنوانها: الاستقرار، إعادة الإعمار، والتكامل بين الشرق الأوسط والقوقاز.
مثّلت الزيارة أول خطوة خارجية بهذا المستوى للرئيس الشرع، في رسالة تؤكد أن دمشق بصدد إعادة تموضعها بعد انتهاء مرحلة الفوضى والاقتتال. واختيار باكو تحديداً يعبّر عن توجه نحو تنويع التحالفات وعدم الارتهان لمحاور تقليدية.
أذربيجان تثبّت مكانتها بوصفها وسيطاً إقليمياً
تُدرك باكو أن تجربتها في استعادة كاراباخ، وإعادة الإعمار السريع، وإقامة علاقات متوازنة مع تركيا وروسيا وإيران والغرب، جعلتها شريكاً مثالياً للدول التي تمر بمراحل انتقالية. ومن ثمّ فإن استقبال الشرع يحمل بُعداً سياسياً يتجاوز العلاقات الثنائية، ليصل إلى صياغة معادلات جديدة بين الشرق الأوسط والقوقاز
الدور الإقليمي
عملت الأردن ودول عربية عدة على دعم مسار الاستقرار، خصوصاً في ملف السويداء، حيث رفضت عمان ضغوط جماعات مسلحة لفتح معبر حدودي.
خارطة طريق سياسية… نحو دستور جديد وانتخابات رئاسية
تؤكد الحكومة السورية أن المرحلة الانتقالية تهدف إلى تأسيس جمهورية جديدة قوامها الحرية والديمقراطية. ومن أبرز خطواتها:
• تشكيل مجلس الشعب الجديد من رحم الثورة.
• الإعداد لـ قانون أحزاب يعيد الحياة السياسية إلى البلاد.
• تأسيس هيئة للعدالة الانتقالية وهيئة للمفقودين.
• التمهيد لصياغة دستور دائم يُستفتى عليه خلال دورتين برلمانيتين.
• تنظيم انتخابات رئاسية خلال 4–5 سنوات.
ويرى مراقبون أن هذه الخطوات تهدف إلى إعادة بناء الشرعية السياسية من الشعب نفسه، بعد عقود من حكم الحزب الواحد.
التحدي الأكبر: إعادة الإعمار
تُعد إعادة الإعمار واحدة من أعقد المهام أمام الدولة الجديدة، إذ تُقدّر خسائر سوريا وفق البنك الدولي بنحو 216 مليار دولار. وتشمل الاحتياجات الأساسية:
• البنية السكنية والمدارس والمستشفيات
• شبكات الماء والكهرباء
• إزالة الذخائر غير المنفجرة
• إعادة تشغيل قطاعات النقل والتعليم والأفران
ورغم عودة أكثر من مليون لاجئ وأكثر من مليوني نازح إلى مناطقهم، فإن هذه العودة وضعت ضغطاً كبيراً على البنية التحتية، مما يستدعي إجراءات عاجلة.
وتؤكد الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ضرورة دعم سوريا في هذه المرحلة، معتبرين أن الاستقرار السوري سينعكس إيجاباً على كامل المنطقة.
سوريا تكتب فصلاً جديداً من تاريخها
عام واحد فقط كان كافياً لتغيير خريطة سوريا السياسية والعسكرية والدبلوماسية.
وإذا كانت «ردع العدوان» قد أنهت حقبة القمع والاستبداد، فإن السنوات المقبلة تحمل مهمة أصعب: بناء دولة حديثة، ديمقراطية، عادلة، وموحدة.
ورغم التحديات الهائلة، تبدو سوريا اليوم أقرب ما تكون إلى تحقيق حلم شعبها الذي خرج في مارس/آذار 2011 مطالباً بالحرية والكرامة والدولة المدنية