11189,50%1,65
42,56% 0,10
49,54% 0,05
5732,78% -0,22
9297,33% 0,17
في خضمّ الضجيج الإعلامي والكمّ الهائل من التحليلات المتسرعة التي تغزو الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، تبرز الحاجة الماسة إلى قراءة هادئة وواقعية لما يجري على الأرض السورية. فالكثير من الخطابات الموجهة اليوم ليست سوى أدوات في معركة نفسية، هدفها الأبرز هو التأثير على وعي المواطن السوري وإقناعه بأن مستقبل بلاده مرهون بمخططات تقسيمية لا مفر منها. غير أن النظر بتمعّن في الجغرافيا والديموغرافيا والحقائق الميدانية يبيّن أن ما يُروَّج له يفتقر إلى الأساس الواقعي، وأن هذه المشاريع تصطدم بحواجز صلبة تحول دون تحقيقها.
أولاً: السويداء
الآلة الإعلامية التي تتحرك ليل نهار، تعمل على كسر إرادة الشعب السوري ودفعه نحو الاستسلام عبر خلق صورة ذهنية مشوهة عن الأوضاع في بعض المناطق. إحدى أبرز النقاط التي تُبنى عليها هذه الحملات هي محافظة السويداء، والتي تُطرح أحياناً كمرتكز لمشاريع تقسيمية.
لكن القراءة الواقعية للمعطيات تكشف أن الأمر مبالغ فيه إلى حد كبير. السويداء تقع ضمن حزام عربي عشائري واسع، وتعتمد الأطروحات الانفصالية هناك على نحو 200 ألف نسمة، في مواجهة أكثرية سورية تتجاوز 20 مليون مواطن. من الصعب، بل من غير المنطقي، أن يُعوّل على هذه الكتلة الصغيرة لفرض وقائع سياسية أو جغرافية جديدة.
التجربة الميدانية تؤكد ذلك؛ فالمدينة سقطت ثلاث مرات خلال الأحداث الأخيرة، الأولى بيد قوات العشائر، والثانية بيد الأمن العام، والثالثة عبر عملية عسكرية مشتركة، قبل أن تتدخل الضغوط الدولية والتهديدات السياسية لإجبار القوات السورية على الانسحاب تفادياً لمزيد من الفوضى. حتى التدخل الجوي الإسرائيلي لم يكن سوى جزء من استراتيجية الضغط على الحكومة السورية لانتزاع تنازلات، بدفع من الجارة الغربية.
وبالتالي، فإن كل الحديث عن فيدرالية أو دويلة صغيرة في منطقة لا يتجاوز عدد سكانها 400 ألف نسمة — بينهم بدو ونازحون ومعارضون — يبقى أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. ما يجري هو استغلال مجموعات صغيرة إعلامياً من قبل تل أبيب للضغط على دمشق في سياق ترتيبات إقليمية، بينما الحقيقة أن السويداء محصنة ديموغرافياً بحزام سني واسع، والأردن بدورها لن تجرؤ على فتح ممرات إنسانية، لأن أي تحرك واسع للبدو قد يخلط الأوراق ويخرج عن السيطرة.
ثانياً: شرق الفرات
هذه المنطقة يغلب عليها الطابع العشائري العربي، أما الجيوب الكردية التي يُراهن عليها بعض المخططين لمشاريع تقسيم فهي ضعيفة ومجزأة وملاصقة للحدود التركية. هناك سببان رئيسيان يجعل تحقيق مشروع انفصالي هناك أمراً شبه مستحيل:
1. الموقف التركي الحاسم الرافض لقيام أي كيان تابع لحزب العمال الكردستاني على حدوده.
2. الطبيعة العشائرية العربية للمنطقة، حيث لن تصمد هذه الجيوب أياماً في حال رفعت دمشق الغطاء السياسي عن العشائر.
هنا أيضاً، يُستخدم التضخيم الإعلامي كأداة نفسية لزرع فكرة حتمية التقسيم، في حين أن المعطيات على الأرض تشير إلى عكس ذلك.
مشروع “ممر داوود”، بدوره، يندرج في خانة المشاريع النظرية أكثر من كونه خطة قابلة للتنفيذ، خصوصاً في ظل غياب الدعم الأمريكي والروسي لأسباب متعددة.
الصورة التي يرسمها الإعلام عن مستقبل سوريا تتناقض كثيراً مع الواقع الميداني والسياسي. البلاد خرجت من حرب استمرت 14 عاماً أكثر صلابة مما كان يتوقعه خصومها، والرهان على تفتيتها عبر بؤر محدودة التأثير يبدو وهماً. ساعة الحسم، حين تأتي، ستدفع كثيرين ممن يرفعون أصواتهم اليوم خلف الشاشات إلى الفرار، تاركين خلفهم الشعارات التي طالما لوّحوا بها.
إن ما يُحاك في الغرف المغلقة وما يُسوّق في الإعلام الخارجي ليس قدراً محتوماً، بل مجرد أدوات في صراع الإرادات. سوريا التي صمدت في وجه حرب طويلة ومعقدة، وأفشلت رهانات أكبر من هذه، تملك اليوم أوراق قوة تجعل مشاريع التقسيم مجرد أحلام على الورق. وفي النهاية، تبقى الحقيقة واضحة: عقارب الساعة في هذا البلد لا تعود إلى الوراء، وكل من يراهن على ضعف إرادته سيكتشف، عاجلاً أم آجلاً، أن الحسابات التي بُنيت على الوهم مصيرها السقوط أمام صلابة الواقع.
الدكتور مختار فاتح بي ديلي