11189,50%1,65
42,56% 0,10
49,54% 0,05
5732,78% -0,22
9297,33% 0,17
يُعدّ الشعر الشعبي لدى تركمان سوريا أحد أبرز المكوّنات الثقافية الحيّة التي حملت ذاكرة المجتمع وأصالته عبر الأجيال. فهو ليس مجرد أبيات موزونة أو كلمات منغّمة، بل سجل شفهي يوثق حياة الناس، أفراحهم وأحزانهم، قيمهم ومعتقداتهم، ومواقفهم من تقلبات الزمان والأحداث. وقد تميّز هذا الشعر بكونه تراثًا غير مكتوب في معظمه، ظلّ معتمدًا على الحفظ الشفهي وتداوله في المجالس والمضافات والسهرات الشعبية، مما أدى إلى ضياع كثير من القصائد مع رحيل أصحابها أو تغيّر ظروف الحياة.
وفي هذا السياق، برزت أسماء شعراء محليين من أبناء تركمان سوريا، لم تخلّدهم صفحات الكتب بقدر ما حفظتهم ذاكرة القرى ومجالسها، ومن هؤلاء الجد الشيخ الحاج نعسان آغا ، الذي كان ينظم أشعاره في مضافته ، كذلك والدي الراحل الحاج فاتح كال محمد من قرية بلوى ميرخان، والشاعر الشعبي عبّود إسماعيل من قرية هواهويوك في ريف حلب الشمالي الذي سنتحدث عنه بالتفصيل في هذه المقالة وغيرهم كثر من كتاب الشعر الشفهيّ الشعبي . وقد جسّد هؤلاء صورة الشاعر الشعبي الحي، الذي يجمع بين صدق البوح وعمق التجربة الحياتية، وبين الحس المرهف وروح الدعابة، فكان لسان حال بيئته ومرايا مشاعرها.
وأغلب الشعراء الشعبيين التركمان تعلّموا القراءة والكتابة في صغرهم على يد شيوخ الجوامع أو في المضافات، وظلت قصائدهم بعيدة عن التدوين الرسمي، تولد في الحقول، وعلى ألسنة الرواة في المجالس، أو تسجَّل على أشرطة الكاسيت، مستمدة قوتها من قربها من الناس وبساطتها.
إن الشعر الشعبي التركماني في سوريا، كما في أشعار عبّود إسماعيل وأقرانه، يندرج ضمن نمط واسع من الإبداع الشفهي الذي يعتمد على الذاكرة الحية والتداول الاجتماعي، حيث تعيش القصيدة بقدر ما يتداولها الناس ويرددونها، دون أن تكون هناك بالضرورة نية لتوثيقها. ولهذا، باتت الحاجة ملحّة في العقود الأخيرة لبذل جهود بحثية وميدانية لتوثيق ما تبقّى من هذا التراث، قبل أن يطويه النسيان.
وُلد الشاعر الشعبي التركماني عبّود إسماعيل سنة 1905 في قرية “هواهويوك” التابعة لناحية “چوبان باي” (الراعي) في محافظة حلب، من تركمان بي ديلي البكمشلية فرع حاج علي والده إسماعيل ووالدته أليف . فقد والديه وهو صغير، فتولى عمّه في رعايته وله ولدين هما كاظم وفكرت، وبنتًا اسمها دُندُه. لم يلتحق عبّود بالمدرسة في طفولته، لكنه تعلّم القراءة والكتابة لاحقًا بمجهوده الشخصي. عمل في الزراعة، كما اشتغل في مهنة البناء. وبسبب الحَوَل في عينيه، كان يُعرف في منطقته بلقب “الأعور” أو “يانغوز”. توفي في 10 أيلول/سبتمبر 1986 عن عمر ناهز 81 عامًا، ودُفن في قريته هواهويوك.
على الرغم من أنه لم يتقن ولم يمارس كل عناصر فنون الـ آشيق التقليدية مثل العزف على آلة الساز، أو الارتجال الشعري، أو أسلوب الأدبي المدرسي، إلا أنه كتب أشعارًا على نهج شعراء الـ آشيق، مستخدمًا لقب “عبّود” توقيعًا له. وصلنا من أشعاره 25 قصيدة، تكشف عن إلمامه الجيد من حيث الشكل والمضمون بالشعر الشعبي. ووفقًا لرواية ابنه فكرت، فقد كتب عبّود مئات القصائد، لكن معظمها ضاع بسبب الإهمال في حفظها. نُشرت أشعاره الباقية لأول مرة في كتاب “بحث في الثقافة الشعبية لدى تركمان حلب” (إرول 2012: ص 200-225).
لا يُعرف متى بدأ كتابة الشعر أو كيف، لكنه استخدم اسمه المستعار في جميع قصائده المعروفة، باستثناء قصيدتين أشار فيهما إليه بطريقتين مختلفتين:
• في إحداهما قال: “أنت ابن شكرو وأنا ابن إسماعيل”، فذكر اسم والده للدلالة على نفسه بشكل غير مباشر.
• وفي أخرى قال: “كتبتها بالعين والباء والواو والدال”، مشيرًا إلى الأحرف الأولى من كلمة “عبّود” (ع – ب – و – د).
سجّل عبّود بنفسه بعض قصائده بصوته على أشرطة كاسيت، كما حُفظت بعض أشعاره في دفاتر كان يدونها أهل المنطقة. كتب قصائده على أوزان الشعر الشعبي ذات التفاعيل 8 – 11 مقطعًا، وبأسلوب “القوشما” (القصيدة الشعبية). بعض ما سجله بصوته وصفه بالـ “ملحمة”. كان شاعرًا تركمانيا محليًا معروفًا في محيط حلب فقط. ومن الشعراء الذين ذكره أحدهم في قصيدة معارضة له كان “محمود خوجة” (توفي 2000).
ورغم أنه لم يشارك في مناظرات شعرية تقليدية، فإنه تبادل القصائد بالمراسلة مع الشاعر التركماني “محمد الجيلاني” من الجولان. وقد روى هذه الحادثة بصوته على الشريط قائلًا:
“كان جدي قاسم يعمل شرطيًا في دمشق وجاء في إجازة، فقال: هناك صديق في دمشق يكتب شعرًا جميلًا، ومعي قصيدة له، هل تريد أن أقرأها لك؟ قرأها وكانت جميلة ومتقنة، لكنني لم أصدق أنها من نظمه. قلت: سأرسل له قصيدة، فإذا ردّ عليها بما يناسبها، علمت أنه كتبها بنفسه. فأرسلت إليه قصيدتي، فردّ عليّ بقصيدة مناسبة.”
القصيدة التي بعثها عبّود كانت تبدأ بالأبيات:
“ما كُتب على جبيني الله وحده يعلم / المُنهك في طريق الذنب أنا”،
وعُرفت بعنوان “المسؤول أنا”. وبهذا أراد عبّود أن يختبر موهبة محمد الجيلاني الشعرية. كما ردّ على قصيدة للشاعر التركي المعروف بـ”مردان أوغلو” بعنوان “كيف أفي بحق أمي” بقصيدة بعنوان “لا يُوفَّى حق الوالدين”.
لم يقتصر شعر عبّود على الغزل، بل تناول موضوعات شتى، إلا أن شخصيته الشعرية تميزت بوجهين متناقضين:
• جانب سوداوي، عبّر فيه عن الشيخوخة، وفساد الزمان، وخيانة الأصدقاء، ونكران الجميل، وحرمانه من التعليم. في هذه القصائد كان يعكس إحساسًا بالمرارة واليأس، حتى إنه كان يتمنى الرحيل عن الدنيا سريعًا. فقد بدأت معاناته بفقد والديه صغيرًا، واستمرت حتى نهاية حياته، فلم يعرف طعم السعادة. وتختصر قصيدته “الدنيا الكاذبة” هذه النظرة القاتمة.
• جانب فكاهي، حيث تناول أحداث حياته الريفية وشخصياتها بروح الدعابة، فيرسم الابتسامة على وجوه المستمعين. وبحسب ابنه فكرت، كان والده في حياته اليومية صاحب روح مرحة، يلتقط المواقف الطريفة وينظم عنها أبياتًا ساخرة، وبعضها تحوّل إلى نوادر شعبية متداولة حتى اليوم. وتظهر هذه الروح الساخرة في قصائد مثل: ملحمة السترة، ملحمة النقود، ملحمة الديك الرومي، الضرر بيد الدزدي، هجاء إبراهيم أحمد.
يبقى الشعر الشعبي التركماني في سوريا شاهدًا حيًّا على حيوية الذاكرة الجماعية وقدرتها على حمل ملامح الهوية عبر العصور. فهو ليس تراثًا ترفيهيًا أو فنًا معزولًا عن حياة الناس، بل هو مرآة صادقة لروح المجتمع، تسجّل حكاياته وتعبّر عن همومه وأفراحه، وتوثّق مواقف أبنائه من الأحداث التي عاشوها. وشعراء مثل الحاج نعسان آغا، والحاج فاتح كال محمد، وعبّود إسماعيل، وغيرهم من رموز ووجهاء التركمان في المجالس والمضافات القرى ، كانوا حراس هذا التراث وحاملو رسالته، وإن لم تُكتب أشعارهم في دواوين، فقد كُتبت في قلوب الناس وذاكرتهم.
إن ضياع جزء كبير من هذا الموروث نتيجة لغياب التوثيق يفرض علينا اليوم مسؤولية مضاعفة، ليس فقط لحفظ النصوص الشعرية كما هي، بل لفهم البيئة التي أنجبتها، واللغة التي صيغت بها، والوجدان الجمعي الذي غذّاها. فالشعر الشعبي التركماني، برغم طبيعته الشفوية، هو سجل تاريخي وثقافي مكمّل للوثائق المكتوبة، وأحد أهم جسور التواصل بين الماضي والحاضر.
وحين نعيد إحياء هذا التراث، فإننا لا نستحضر الماضي لمجرد الحنين، بل نعيد وصل حكاية شعبه بجذوره، ليظل حاضرًا في وجدان أجياله القادمة، كما ظل حيًا على ألسنة رواته وشعرائه على مر السنين.
الدكتور مختار فاتح بي ديلي
المصادر:
• إرول، محمد (2012). بحث في الثقافة الشعبية لدى تركمان حلب. أنقرة: منشورات غرافيكر.
• إرول، محمد (2014). “التركمان السوريون وآدابهم”. ضمن وقائع ندوة مجالات انتشار اللغة والأدب التركي (7-9 تشرين الأول/أكتوبر 2010). أنقرة: منشورات مؤسسة اللغة التركية، ص 175-186.
• إرول، محمد (2017). “الدفاتر الشعبية بين تركمان حلب (سوريا)”. المؤتمر الدولي الثامن للثقافة الشعبية التركية، الأدب الشعبي، الجزء الثاني. أنقرة: وزارة الثقافة والسياحة، ص 57-70.
. الدكتور مختار فاتح بي ديلي، كتاب دراسات في التاريخ الشفهي والمحلي للتركمان في سوريا والأناضول الأدب الشفهي عند تركمان سوريا: دراسة في البنية والوظيفة، مركز الدراسات التركية – إزمير2018
. الدكتور مختار فاتح بي ديلي …علم من اعلام بلادي ... الشاعر التركماني السوري عبود اسماعيل 1904 _1987 .