9311,88%-2,19
38,85% -0,32
44,87% -0,99
4344,50% 1,44
6989,75% 1,74
التركمان :شعب قديم في سوريا
كان التركمان جزءًا لا يتجزأ من المجتمع السوري لقرون طويلة، وهم اليوم ينتظرون لعب دور مهم في إعادة بناء سوريا
لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط، التي تقع فيها الأناضول وسوريا وشمال العراق في مركز الثقل، من أكثر المناطق قيمة عبر التاريخ، وغالبًا ما كانت السباقة في مجالات عديدة. فقد توجهت جميع القوى الساعية للهيمنة العالمية إلى هذه المنطقة لتعزيز قوتها وترسيخ هيمنتها. وفي كتابه الكلاسيكي "تاريخ الأتراك"، كتب جان بول رو: "خرجوا من غابات الشمال، شجعانًا، غير منظمين، مبتكرين، وفي بداية رحلتهم. انتشروا أولًا في السهوب، ثم إلى الصين، ومن ثم، مثل طوفان لا نهاية له، نحو الغرب..." ربما لهذا السبب كان التيار التركي يتدفق بغزارة نحو الغرب. ولا تزال أهمية الشرق الأوسط اليوم تضاهي أهميته التاريخية؛ فطريق الوصول إلى قمة الهيمنة العالمية يمر عبر هذه الأرض، التي تعد تركيا جزءًا منها
لفهم واقع الشرق الأوسط اليوم، يجب فهم ماضيه. نحن جميعًا نعلم بشكل أو بآخر كيف بدأت الأحداث في سوريا. ففي عام 2011، اندلعت تظاهرات سلمية في درعا طالبت بإجراء انتخابات وضمان حقوق ثقافية. غير أن نظام بشار الأسد واجه هذه التظاهرات بقوة قمعية شديدة، مما أدى إلى اتساع رقعة الاحتجاجات في عموم البلاد
صنف النظام هذه الأحداث على أنها "إرهاب مدعوم من الخارج"، واستخدم كل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الأسلحة الكيميائية، لقمع المطالب. تصاعد العنف بسرعة، مما أدى إلى نزوح داخلي لما لا يقل عن ستة ملايين سوري، وفرار أكثر من سبعة ملايين آخرين إلى الخارج. تستضيف تركيا ولبنان والأردن 75% من هؤلاء اللاجئين. كما تعرضت الثروة التاريخية السورية للنهب والتدمير خلال هذه الفترة، بما في ذلك العديد من المواقع المسجلة على لائحة التراث الثقافي لليونسكو، ومعظمها كان من التراث التركي-الإسلامي
وعقب عقد مأساوي من الأحداث، بدأت مرحلة جديدة في سوريا بدخول "هيئة تحرير الشام" والجيش الوطني السوري إلى دمشق. ومع سقوط نظام الأسد، نشأ واقع سياسي فريد، يمهد لبداية تحولات جذرية في النظام الداخلي والعلاقات الدولية لسوريا. ومن وجهة نظر تركيا، تعتبر المسألة السورية من أهم بنود السياسة الخارجية، ولها تأثيرات عميقة على الساحة الداخلية أيضًا. لذلك، من المهم تحليل قضية التركمان السوريين من منظور متعدد الأبعاد
التركمان في الشرق الأوسط
منذ تفكك الدولة العثمانية وترسيم الحدود المصطنعة، لم تتوقف الدماء والدموع في المنطقة. فقبل حوالي 150 عامًا، كانت مناطق شمال سوريا وشمال العراق الحالية جزءًا من ولايات حلب وديار بكر والرقة والموصل العثمانية. ضمن هذا السياق، كان التركمان السوريون، الذين يشكلون جزءًا أصيلًا من العالم التركي، من سكان المنطقة
حتى قبل دخول الاتراك وأسلمة الأناضول، أُقيمت إمارات ودول تركية فيما نعرفه اليوم بسوريا، وكانت حلب مركزًا لانطلاق التتريك والأسلمة. ومنذ القرن السابع، وُجدت قبائل الأوغوز في العراق وسوريا. ومع القرنين العاشر والحادي عشر، بدأت موجات هجرة تركية مكثفة إلى المنطقة. عاش التركمان السوريون في معظم أنحاء سوريا، لاسيما في المواقع الاستراتيجية. كان هناك تواجد تركماني بارز في ثورة الحريةوالكرامة في حلب، اللاذقية، إدلب، حماة، حمص، طرطوس والرقة. ومع اندلاع الحرب، اضطر الكثير منهم للنزوح إلى دول مجاورة
ينتمي أغلب التركمان السوريين إلى المذهب السني الحنفي، مع وجود أقلية من العلويين التركمان . واللغة التركية التي يتحدث بها التركمان في سوريا قريبة للغاية من لهجات عنتاب، كيليس، أورفا وديار بكر. وقد ظل التركمان مكونًا منفصلًا ومتميزًا في سوريا لقرون طويلة
تشير التقديرات إلى أن حوالي 1.5 مليون تركماني لا يزالون يتحدثون التركية في سوريا، بينما يبلغ العدد الإجمالي للتركمان قرابة 3 ملايين نسمة. ومع ذلك، لا توجد سجلات دقيقة بسبب إهمال النظام لهذا الملف. يعيش التركمان بكثافة في المناطق القريبة من الحدود التركية، حيث حافظوا على لغتهم، بينما تعرضوا للاندماج والتعريب أو التكريد في المناطق البعيدة، كما هو الحال في عفرين وعين العرب
تُعد سوريا آخر دولة في الشرق الأوسط شهدت إسقاط دكتاتورية بشكل احتفالي. ومع ذلك، فهي تفتقر إلى المؤسسات القوية القادرة على إدارة بلد عانى من الاستبداد والاضطرابات منذ الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي. ومع تزايد تآكل القوى الكبرى، قد تشهد المنطقة مستقبلاً أكثر اضطرابًا. في عالم تتقلص فيه المسافات بفعل التكنولوجيا وتزداد فيه الهواجس، من المتوقع أن تكون حالة عدم الاستقرار أشد مما نتخيل
في ظل هذه المعطيات، أصبحت جميع الأطراف المعنية بالأزمة السورية تعيد مراجعة مواقفها وتحديث استراتيجياتها. وفي هذا السياق، تبرز أهمية دعم ومساعدة التركمان السوريين وإعادة تنظيم صفوفهم، باعتبارهم جزءًا أصيلًا من الشعب السوري ومن العالم التركي. ونظرًا لما لهذا الملف من تأثير مباشر على الأمن الوطني التركي، خاصة في ظل وجود أكثر من 900 كيلومتر من الحدود المشتركة مع سوريا، فإن من الضروري أن تولي تركيا اهتمامًا خاصًا بالقضية السورية عامة، وبالتركمان خاصة
تحليل المقال
التركمان في سوريا: ركيزة أصيلة لوحدة الوطن ومستقبله
كان التركمان، على امتداد القرون، جزءًا أصيلًا ومتكاملًا من النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي لسوريا. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، أثبتوا مجددًا إخلاصهم لوحدة التراب السوري ورفضهم لكل مشاريع التقسيم والفتنة. خرج من صفوفهم قادة وطنيون عظام، عبد القادر الصالح حجي مارع وقاسم عيسى عبد الرزاق جولحه ، الذين قدّموا أرواحهم فداءً لاستقلال سوريا ووحدتها
اليوم، ومع بداية مرحلة جديدة في التاريخ السوري بسقوط نظام الاستبداد، تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة بناء سوريا على أسس العدالة والشراكة الوطنية الحقيقية. وفي هذا الإطار، يشكل التركمان ركيزة أساسية قادرة على الإسهام الفاعل في تحقيق الاستقرار وإعادة اللحمة الوطنية، بما يملكونه من رصيد تاريخي، وقاعدة اجتماعية واسعة، وقيم حضارية عريقة
سياسيًا، يمثل التركمان قوة وطنية معتدلة يمكن الاعتماد عليها في ترسيخ سيادة الدولة ومؤسساتها. اجتماعيًا، هم جسر تواصل بين المكونات السورية المختلفة، بما يحمله إرثهم من روح التعايش والانفتاح. ثقافيًا، يمثلون امتدادًا حيًا للتراث السوري التركي الإسلامي، الذي يشكل جزءًا من الهوية الحضارية المتعددة لسوريا
أما وطنيًا، فقد أثبت التركمان أن ولاءهم الأول والأخير هو لسوريا موحدة أرضًا وشعبًا. ولذا، فإن دعمهم وإعادة تنظيم صفوفهم لا يصب فقط في مصلحة التركمان وحدهم، بل هو استثمار استراتيجي في مستقبل سوريا الموحدة، الحرة، المستقرة
ختامًا، إن الحفاظ على وجود التركمان وتعزيز دورهم السياسي والاجتماعي يمثلان التزامًا أخلاقيًا ووطنيًا لا غنى عنه، من أجل بناء سوريا الجديدة، التي يطمح إليها كل أبنائها الشرفاء
الدكتور مختار فاتح بي ديلي
المقال باللغة الانكليزية في الرابط
https://www.dailysabah.com/opinion/op-ed/an-ancient-people-in-syria-turkmens