9401,11%1,46
38,16% 0,08
43,69% 0,13
4070,08% -0,69
6581,31% 0,00
منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، برز عدد من القادة الميدانيين الذين جمعوا بين الرؤية السياسية، والقدرة العسكرية، والانتماء الشعبي. وكان من أبرز هؤلاء القادة فهيم أحمد عيسى، أحد الوجوه البارزة للثورة السورية المسلحة، الذي قاد فصيلاً تركمانياً حمل اسم فرقة السلطان مراد، وجعله ركيزة أساسية في خريطة الفصائل السورية المعارضة، خاصة في شمال البلاد.
شكّل فهيم عيسى نموذجاً للقائد الذي دمج بين الانتماء الوطني والقومي التركماني، والانخراط الكامل في الثورة السورية، بما تحمله من أبعاد وطنية وشعبية. ومع تطور مراحل الثورة وتدخل الأطراف الإقليمية والدولية، حافظ المجاهد فهيم عيسى على موقعه القيادي، بل وساهم في تشكيل نواة الجيش الوطني السوري، وبقي حاضراً في صلب العمليات العسكرية الكبرى التي خاضتها الفصائل بدعم مباشر من تركيا.
النشأة والخلفية الاجتماعية
وُلد فهيم أحمد عيسى في ريف محافظة حلب شمال سوريا قرية هواهيوك تل الهوى التابعة لمدينة جوبان بي الراعي التابعة لمنطقة الباب ، وينحدر من إحدى العائلات التركمانية المعروفة في المنطقة بتاريخها النضالي في سوريا منذ الانتداب الفرنسي حيث شارك اجداده في صد ودحر القوات الفرنسية على جبهات الباب وجرابلس وإعزاز . نشأ في بيئة يغلب عليها الطابع الزراعي والوطني، وكان للهوية الوطنية والقومية أثر واضح في شخصيته وتكوينه، حيث تعلّم منذ الصغر اللغة التركية إلى جانب العربية، وانخرط في الأوساط الاجتماعية التركمانية التي كانت تتمسك بموروثها الثقافي رغم محاولات التهميش التي فرضها نظام الأسد لعقود.
لم يكن فهيم عيسى شخصية عسكرية معروفة قبل الثورة، لكنه كان رجلا للأعمال وكذلك ناشطاً اجتماعياً قريباً من مجتمعه المحلي، وهو ما أهّله ليكون صوتاً موثوقاً ومقبولاً حين اندلعت شرارة الاحتجاجات
في ملحمة الشعب السوري الممتدة منذ عام 2011، والتي رسمت ملامحها دماء الشهداء وصمود الثائرين، تبرز شخصيات لم تكن مجرد فاعلين في الميدان، بل كانت بمثابة أعمدة للثورة، تسندها في أوقات الشدّة، وترفع رايتها في وجه الاستبداد، وتمنحها بُعداً أخلاقياً ووطنياً وقومياً عميقاً. من بين هذه الشخصيات، تتلألأ سيرة القائد فهيم أحمد عيسى، كأحد أعلام النضال السوري، وابناً باراً لحلب الشهباء، وقرية هواهيوك في منطقة الراعي الأبيّة، وركناً راسخاً من أركان الهوية التركمانية في سورية.
أصل الفداء.. من بيت العزّ والشهادة
ينحدر فهيم أحمد عيسى من أسرة مشهود لها بالعطاء والوفاء والانتماء، من تركمان بيديلي عشيرة حاج علي التركمانية من أبن الحاج أحمد عيسى ابو سيفو الملقب (بأحمد عصيتان نسبة لجدهم الذي كان يحارب بسيفين )، أحد وجهاء القبائل التركمانية في حلب ، الأب الذي يعد مرجعاً في الأنساب والتاريخ التركماني ، وموسوعة حية لهوية ظُلمت كثيراً في سرديات الدولة الحديثة. في هذا البيت نشأ فهيم، حيث تعلم معنى التضحية من أخوته الشهداء الثلاثة الذين سقطوا شهداء من أجل الوطن في ساحات العز والشرف :
- قاسم أحمد عيسى
- سيف الدين أحمد عيسى
- عيسى أحمد عيسى
هؤلاء الذين ارتقوا شهداء في طليعة الثورة، حين لم يكن في الساحات إلا الأحرار العُزّل، وهم يواجهون آلة القتل بصدور عارية وقلوب مفعمة بالإيمان بالحرية. كما عاش فهيم تجربة الأسر وقهره، عبر ابن شقيقه سيف الدين الاسير حسين عيسى ابن سيفو ، والذي يعتبر "الشهيد الحي"، الذي كسر قيود السجن وخرج أكثر صلابة، مجسّداً إرادة لا تنكسر. وفي الجانب المدني من هذه الملحمة، برز شقيقه الآخر، حسين أحمد عيسى رئيس غرفة التجارة والصناعة في مدينة الراعي ، رائداً في الاقتصاد السوري طوال السنوات الماضية ، حافظاً على هويته ومسؤوليته الوطنية رغم الصعوبات التي مرت بها المنطقة.
هذه البيئة النضالية، الممتدة في التاريخ، والمرتبطة وجدانياً بتراث السلاطين والمجاهدين، من محمد الفاتح إلى نور الدين زنكي، كانت التربة التي أنبتت المجاهد فهيم قائداً ميدانياً وسياسياً، جمع بين الأصالة والثورية، بين القوة والرحمة، بين الحزم والتواضع.
في ساحات حلب: هندسة الميدان وتكتيكات الصمود
تأسست فرقة السلطان مراد رسمياً في أوائل عام 2013، على يد فهيم أحمد عيسى وأخوته وأبناء عمومته ورفاقة الغيورين والمقربين من أبناء الأحياء الشعبية في حلب وريفها من عرب وتركمان ، وكان هدفها المعلن الدفاع عن المناطق ريف حلب الشمالية، والمساهمة في الثورة السورية ضمن إطار وطني جامع.
اتخذت الفرقة الريف الشمالي لمدينة حلب منطقة أعزاز مركزاً رئيسياً لها، وجذبت عدداً كبيراً من المقاتلين التركمان من كافة المدن السورية ، كما فتحت أبوابها لمقاتلين عرب وأكراد وجركس من كافة المناطق السورية . وقد اعتمدت في تنظيمها على الدعم المحلي والتركي، حيث تلقت تمويلاً وتدريباً وتسليحاً من قبل أنقرة، في إطار دعمها العام للفصائل السورية المعارضة.
برزت فرقة السلطان مراد بسرعة كأحد أبرز الفصائل المنضبطة والفعالة، وهو ما منح فهيم عيسى مكانة متقدمة بين القادة العسكريين للمعارضة، ومهد له دوراً أكبر في العمليات العسكرية المقبلة.
في عام 2012، حين اندلعت المواجهات العسكرية في مدينة حلب، كانت المدينة على موعد مع فصل جديد من الثورة، وكانت الأحياء الشرقية – مثل الهلك و الميدان وشيخ فارس وشيخ خضر – على تماس مباشر مع الجبهات الملتهبة. هناك، تولى فهيم عيسى مهام تنسيق العمل العسكري، وجمع الكتائب تحت مظلة واحدة، وابتكار وسائل دفاع غير تقليدية، في ظل القصف المتواصل وشحّ الإمكانات.
في أحياء حلب الهلك وبستان الباشا والشيخ فارس والشيخ الخضر والبعيدين وعين التل والإنذارات الشعبية حيث اغلب سكان هذه الأحياء من تركمان حلب ،حوّل القائد فهيم الأحياء السكنية إلى خطوط دفاعية محصنة، واستثمر التضاريس في تأمين المواقع، وكان من أوائل من أدخلوا نظام "الكمائن المتحركة" ليلاً، ما أعطى الثوار القدرة على المبادرة في قلب مناطق الاشتباك. الحي، رغم محاولات النظام المتكررة لاقتحامه، صمد بفضل تنسيق عالي المستوى، وقيادة ميدانية واعية.
أما في حي الميدان، فكانت المعارك أكثر تعقيداً، لكون الحي متاخماً للمناطق التي بقيت بيد النظام، وتطلب الأمر تخطيطاً دقيقاً لتثبيت النقاط. اعتمد فهيم هناك تكتيكات حرب الأنفاق، وتفكيك الخطوط الخلفية للنظام الاسدي المجرم ، عبر زرع خلايا متقدمة تعمل في عمق الحي، مما مكن الثوار من الحفاظ على الحي لأشهر رغم التحديات.
وفي الشيخ فارس والشيخ الخضر ، حيث تقاطعت المحاور الميدانية بين الأحياء الحلبية والريف الشمالي، خاض المجاهد فهيم عيسى معارك ضارية ضد عناصر الاسد ومليشياته ، مكّنته من ربط الجبهات وتأمين خطوط الإمداد، وكانت مساهمته حاسمة في تأمين ممرات خروج للمدنيين وتدفق الدعم اللوجستي.
الريف الشمالي لحلب: من الثغور إلى الانتصارات
امتدت سيرة القائد فهيم عيسى الميدانية إلى الريف الشمالي، حيث احتدم الصراع مع قوى متعددة، منها النظام، ومنها تنظيم داعش ومنها تنظيم البكاكا الارهابي الانفصالي في ريف حلب وعلى ضفاف شرق الفرات كذلك في مارع وتل رفعت واحتيملات وصوران، وجوبان بي الراعي لعب دوراً محورياً في الدفاع عن آخر معاقل الثورة في الشمال، حين حاصرت داعش في هذه المناطق، وتقدمت الميليشيات الطائفية نحو اعزاز و تل رفعت والراعي.
في تلك اللحظات الحرجة، تحوّل فهيم عيسى إلى مهندس العمليات المشتركة، وساهم في إنشاء غرفة عمليات حوار كلس، التي نظّمت الهجوم والدفاع في آن واحد. استطاع من خلال "لواء السلطان مراد"، الذي كان قائده العام، أن يستعيد المبادرة على الأرض، وأن يحافظ على التوازن بين ضرورات القتال وحقوق السكان المدنيين.
وفي عام 2016، خاض كافة معارك من درع الفرات الى غصن الزيتون ونبع السلام وكذلك كانت معركة تحرير مدينة جوبان بي الراعي مفصلية. فالمدينة التي شهدت مولده، وكانت رمزاً للهوية الوطنية والقومية، تحررت على يديه، بعد أن دنسها تنظيم داعش الارهابية . كانت العملية مثالاً على التحرير المسؤول، حيث حرص فهيم على ألا يتحول النصر العسكري إلى فوضى، فأشرف على تأسيس إدارة مدنية، ومجلس محلي، ووضع قوانين لضبط الأمن ومنع التجاوزات.
كانت مشاركة فرقة السلطان مراد بقيادة القائد فهيم عيسى محورية في جميع العمليات العسكرية التي خاضها الجيش السوري الحر ثم الجيش الوطني السوري بالتنسيق والدعم المباشر من القوات المسلحة التركية . ويمكن تلخيص دورها على النحو التالي:
1. عملية درع الفرات (2016 - 2017)
- فرقة السلطان مراد كانت من أبرز الفصائل التي شاركت في الهجوم البري منذ اليوم الأول للعملية، نظرًا لقوتها التنظيمية وتسليحها ودورها المحوري في مدينة جرابلس.
- فهيم عيسى، القائد العام للفرقة، قاد وحداته في معارك الباب و دابق، وكان له حضور ميداني قوي في التنسيق مع كافة القوات المشاركة .
- الفرقة ساهمت بشكل كبير في تطهير المناطق من عناصر داعش، كما تولّت لاحقًا مسؤوليات أمنية في المناطق المحررة.
2. عملية غصن الزيتون (2018)
- شاركت فرقة السلطان مراد بقيادة المجاهد فهيم بقوة في اقتحام مناطق عفرين وريفها، وكانت في الخطوط الأمامية للهجوم ضد قوات YPG/PKK.
- فهيم عيسى لعب دورًا في التخطيط الميداني للمعركة، وكان جزءًا من قيادة غرفة العمليات المشتركة مع الجانب التركي.
- بعد دحر مليشيات وعناصر الارهابية الانفصالية لعناصر YPG/PKK والسيطرة على منطقة عفرين ، تولّت الفرقة مهام حفظ الأمن ومراقبة الحدود، وساهمت في ضبط الوضع الأمني الداخلي في المدينة.
3. عملية نبع السلام (2019)
- تولّت فرقة السلطان مراد محورًا رئيسيًا في الهجوم على مدينة تل أبيض، وساهمت بشكل كبير في السيطرة عليها خلال الأيام الأولى من العملية.
- فهيم عيسى ظهر إلى جانب قادة آخرين في البيانات الرسمية التي أعلنت انطلاق العملية، وكان له دور سياسي أيضًا في تمثيل الجيش الوطني في كافة المحافل .
- بعد العملية، تمركزت وحدات الفرقة في عدد من البلدات والقرى المحيطة بتل أبيض، وأُنيط بها تنفيذ المهام الأمنية.
4. عملية درع الربيع (2020)
- على الرغم من أن الدور الأساسي في هذه العملية كان للقوات التركية، إلا أن فرقة السلطان مراد أرسلت وحدات دعم إلى جبهات سراقب وجبل الزاوية للمساندة.
- القائد فهيم عيسى أرسل قواته دعماً للعمليات في محور النيرب – معرة النعمان، في إطار تعزيز خطوط الدفاع ضد قوات النظام ومليشيات الطائفية الإيرانية واللبنانية .
دور فهيم عيسى القيادي والسياسي
- لم يكن فهيم عيسى قائداً ميدانياً فقط، بل تحوّل لاحقًا إلى أحد الوجوه السياسية والعسكرية البارزة في الجيش الوطني السوري، حيث شغل مناصب عليا مثل نائب رئيس هيئة الأركان .
- عُرف بعلاقاته الجيدة مع الجانب التركي، ولعب دورًا في توحيد الفصائل تحت مظلة الجيش الوطني.
- بقي حريصًا على إبراز دور التركمان في الثورة السورية، باعتباره من أبرز القادة التركمان، وهو ما جعله يحظى بدعم شعبي داخل الأوساط الوطنية والقومية التركمانية في الشمال السوري.
من الخندق إلى الوزارة: وفاء للبندقية الأولى
لم يكن طموح فهيم السلطة ولا المنصب. ظل وفياً للميدان حتى بعد تعيينه نائباً لوزير الدفاع في وزارة الدفاع التابعة للحكومة السورية الجديدة . حمل معه إلى موقعه التنفيذي روح الخندق، وخبرة المعركة، وعين القائد الذي لا ينسى رفاقه في الجبهات.
عُرف عنه التواضع والالتزام، وميله إلى العمل بصمت، ورفضه للظهور الإعلامي إلا حين تقتضي الضرورة. لم تُغره الشهرة، بل ظل حارساً لمبادئ الثورة، ومدافعاً عن قيمها، وساعياً إلى أن تبقى قضية الشعب السوري حية في المحافل العسكرية والسياسية.
القائد في الوجدان الشعبي
ليس فهيم أحمد عيسى قائداً وطنيا وقوميا فحسب، بل هو رمز سوري جامع، جسّد صورة الإنسان المقاوم، الذي خرج من رحم الظلم ليصنع كرامة شعب. هو امتداد لأرث المجاهدين الذين حفروا أسماءهم في التاريخ، لا طلباً لمجد، بل وفاءً لعهد.
وهو اليوم، كما كان بالأمس، على عهد الثورة باقٍ. نراه في كل ثغر، ونلمس أثره في كل نصر، ونؤمن بأن أمثال فهيم هم من سيكتبون الصفحة الأخيرة لهذا الصراع الطويل: صفحة الحرية والكرامة والعودة.
الدكتور مختار فاتح بي ديلي