التركمان في سوريا- الجذور التاريخية، والدور الوطني، والنضال القومي في بناء الدولة السورية
دراسة تاريخية إثنو-سياسية
الدكتور مختار فاتح
خطة البحث
المقدمة
من هم التركمان؟ الأصل والنسب
أوغوز خان والقبائل الأربع والعشرون
مصطلح التركمان في المصادر التاريخية
التركمان والغُز والسلاجقة
دخول التركمان إلى بلاد الشام
التركمان في العصر الأموي
التركمان في العصر العباسي
التركمان في العهد السلجوقي
التركمان في عهد الزنكيين والأيوبيين
التركمان في العصر المملوكي
التركمان في العهد العثماني
سياسة التوطين العثمانية للتركمان
التركمان في المدن والقرى السورية
التركمان في حلب
التركمان في حمص
التركمان في حماة
التركمان في دمشق
التركمان في اللاذقية وطرطوس
التركمان في الجولان
التركمان في العصر الحديث
التركمان والانتداب الفرنسي
التركمان بعد الاستقلال
التركمان والهوية القومية
العائلات التركمانية في سورية
المقدمة
يُعدّ التركمان أحد المكوّنات القومية الأصيلة في المجتمع السوري، وقد شكّلوا عبر التاريخ جزءًا فاعلًا من البنية السكانية والسياسية والعسكرية لبلاد الشام. وعلى الرغم من هذا الحضور التاريخي العميق، فإن الدراسات الأكاديمية العربية لم تُنصف هذا المكوّن بما يتناسب مع دوره وحجمه، إذ غالبًا ما جرى تهميشه أو إدراجه عرضًا ضمن سياقات أوسع تتعلق بالتاريخ التركي أو العثماني، دون التوقف عند خصوصيته السورية.
تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على تاريخ التركمان في سورية، من حيث الأصل العرقي، والجذور التاريخية، ومسارات الهجرة والاستقرار، والدور الذي لعبوه في مختلف العصور الإسلامية، وصولًا إلى العصر الحديث. كما تسعى إلى توثيق وجودهم الجغرافي، وإبراز إسهاماتهم العسكرية والسياسية والاجتماعية، مع التركيز على العائلات التركمانية التي استقرت في المدن السورية الكبرى.
تعتمد الدراسة منهجًا تاريخيًا تحليليًا، يقوم على تتبع الروايات الواردة في المصادر العربية والإسلامية، إلى جانب ما ورد في المصادر العثمانية وبعض الدراسات الحديثة، مع مراعاة الفصل بين الرواية التاريخية والأسطورة القومية، دون إغفال الأثر الرمزي للأسطورة في تشكيل الهوية الجماعية للتركمان.
أولًا: من هم التركمان؟ الأصل والنسب
التركمان هم أفراد العرق التركي الذين تناسلوا من سلالة جدهم الأسطوري أوغوز خان، بأحفاده الأربعة والعشرين، وهم أصل الترك. ويتواجد التركمان اليوم في مناطق واسعة تمتد من آسيا الوسطى إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في كل من تركمانستان، وتركيا، وأذربيجان، وأفغانستان، وإيران، والعراق، وسورية، ولبنان، وفلسطين، والأردن، وليبيا.
ويتكلم التركمان اللغة التركمانية، وهي إحدى اللغات التركية التي تنتمي إلى عائلة اللغات الألطية، وتتشابه إلى حدّ كبير مع اللغة التركية الأناضولية، مع احتفاظها بخصائص لغوية قديمة تعود إلى لهجات الغُز الأوائل.
ثانيًا: أوغوز خان والقبائل الأربع والعشرون
تجمع الروايات التاريخية والأسطورية لدى التركمان على أن أوغوز خان هو الجد الأعلى للقبائل التركية الغُزية. وتنسب إليه أربعة وعشرون قبيلة، قُسّمت تقليديًا إلى جناحين كبيرين: بوز أوك (Bozok) وأوج أوك (Üçok). وقد لعبت هذه القبائل دورًا محوريًا في الهجرات التركية الكبرى نحو الغرب، وأسست لاحقًا دولًا وسلطنات كان لها أثر بالغ في تاريخ العالم الإسلامي.
ثالثًا: مصطلح التركمان في المصادر التاريخية
ظهر مصطلح "تركمان" في المصادر الإسلامية في وقت مبكر نسبيًا، واستخدم أحيانًا للدلالة على الغُز المسلمين، وأحيانًا أخرى لتمييز القبائل التركية الرحل عن الأتراك المستقرين في المدن. وقد ورد المصطلح في عدد من المصادر، مثل كتاب تاريخ سيستان، وأعمال البيهقي والغرديزي، حيث استُخدم لوصف مجموعات تركية اعتنقت الإسلام وبدأت بالتحرك غربًا.
رابعًا: التركمان والغُز والسلاجقة
اختلف الباحثون في تفسير العلاقة بين مصطلحات "الترك"، و"الغُز"، و"التركمان". ويرى بعضهم أن التركمان هم الغُز بعد إسلامهم، بينما يرى آخرون أن المصطلح اكتسب لاحقًا دلالة سياسية مرتبطة بصعود السلاجقة. وقد أشار المستشرق مينورسكي إلى أن السلاجقة حاولوا التميّز عن بقية الغُز باستخدام مصطلح التركمان، في حين ربط المروزي التسمية بالتحول الديني والاجتماعي للغُز بعد اعتناقهم الإسلام.
خامسًا: دخول التركمان إلى بلاد الشام
بدأت هجرة القبائل التركمانية نحو بلاد الشام في وقت مبكر نسبيًا، وتحديدًا منذ أواخر القرن السابع الميلادي، وذلك في سياق التوسع الإسلامي شرقًا وشمالًا، وما رافقه من حركة القبائل التركية التي انخرطت في الجيوش الإسلامية. وتشير المصادر التاريخية إلى أن أولى موجات التركمان وصلت إلى أطراف الشام ضمن فرق عسكرية، ثم ما لبثت أن استقرت مجموعات منهم في مناطق مختلفة، خصوصًا في الثغور الشمالية والشرقية.
ويذكر المؤرخ البلاذري أن جماعات من التركمان نزلت دمشق في سنة 105 هـ / 723 م، في إطار التنظيم العسكري للدولة الأموية، حيث استُخدموا كقوات مساندة لحماية الحدود ومواجهة البيزنطيين. كما تشير مصادر أخرى إلى وجود تركماني مبكر في مناطق حلب وحماة، وهو وجود لم يكن عابرًا، بل تطور لاحقًا إلى استقرار دائم.
سادسًا: التركمان في العصر الأموي
في العصر الأموي، لم يكن للتركمان كيان سياسي مستقل في بلاد الشام، إلا أن وجودهم العسكري كان واضحًا ضمن الجيوش الأموية. فقد اعتمد الأمويون على العناصر التركية، ومنهم التركمان، لما عُرف عنهم من مهارة قتالية وانضباط عسكري. وقد أدى هذا الوجود إلى احتكاك مباشر بينهم وبين المجتمعات المحلية، ما مهّد لاحقًا لاندماجهم الاجتماعي والثقافي.
كما أسهم هذا العصر في بداية تشكّل النواة الأولى للوجود التركماني المستقر في الشام، خاصة في المناطق التي كانت تشهد نشاطًا عسكريًا دائمًا، مثل الثغور الشمالية.
سابعًا: التركمان في العصر العباسي
ازداد اعتماد الدولة العباسية على العناصر التركية، بما فيها التركمان، بصورة ملحوظة، خصوصًا منذ عهد المعتصم بالله. وقد أدى ذلك إلى تعزيز مكانة التركمان داخل المؤسسة العسكرية، وإلى انتقال أعداد أكبر منهم نحو المراكز الحضرية في بلاد الشام.
وفي هذا السياق، لعب التركمان دورًا مهمًا في حفظ الأمن الداخلي، وفي حماية طرق التجارة والحج، كما شاركوا في الحملات العسكرية التي خاضتها الدولة العباسية ضد البيزنطيين. وأسهم هذا الدور في ترسيخ وجودهم الاجتماعي، وتحولهم من عنصر عسكري متنقل إلى جماعات سكانية مستقرة.
ثامنًا: التركمان في العهد السلجوقي
يُعد العهد السلجوقي نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ التركمان في بلاد الشام. فالسلاجقة، وهم من أصول غزية تركمانية، اعتمدوا بشكل كبير على القبائل التركمانية في توسيع نفوذهم السياسي والعسكري. وقد رافقت الجيوش السلجوقية موجات واسعة من الاستيطان التركماني، خصوصًا في شمال سورية ووسطها.
وخلال هذه المرحلة، استقر التركمان في مناطق حلب، والرقة، وحماة، وحمص، واللاذقية، وأُسندت إليهم مهام عسكرية وإدارية. كما لعبوا دورًا مهمًا في مواجهة الحملات الصليبية، وكانوا من أوائل القوى التي تصدت للوجود الصليبي في الشام.
تاسعًا: التركمان في عهد الزنكيين والأيوبيين
في عهد عماد الدين زنكي ونور الدين محمود، برز الدور العسكري والسياسي للتركمان بشكل أوضح. فقد شكّلوا العمود الفقري للجيش الزنكي، وشاركوا بفاعلية في معارك تحرير الرها وغيرها من المدن الشامية.
ومع قيام الدولة الأيوبية، استمر اعتماد الحكام الأيوبيين على التركمان، خاصة أن صلاح الدين الأيوبي نفسه اعتمد على قوات تركمانية في معاركه ضد الصليبيين. وقد أدى ذلك إلى توسيع رقعة الاستيطان التركماني، ومنحهم إقطاعات زراعية وعسكرية، أسهمت في ترسيخ وجودهم الدائم.
عاشرًا: التركمان في العصر المملوكي
شهد العصر المملوكي استمرار الدور الحيوي للتركمان في الحياة العسكرية والسياسية. وقد شاركوا في مواجهة الغزو المغولي، وأسهموا في الانتصار في معركة عين جالوت، إلى جانب باقي القوى الإسلامية.
كما لعب التركمان دورًا في حماية الطرق التجارية، وتأمين الريف الشامي، واستقر عدد كبير منهم في القرى والبوادي، مع احتفاظهم بنمط حياة شبه بدوي في بعض المناطق، خاصة في شمال ووسط سورية.
الحادي عشر: التركمان في العهد العثماني
مع دخول العثمانيين إلى بلاد الشام في أوائل القرن السادس عشر، دخل التركمان مرحلة جديدة من تاريخهم. فقد انتهجت الدولة العثمانية سياسة إسكان منظمة، هدفت إلى إعادة إعمار المناطق المدمّرة، وتأمين الطرق الحيوية، ولا سيما طرق الحج.
وقد استُوطنت قبائل تركمانية عديدة في ولايات حلب ودمشق وطرابلس الشام، وكان وجود كثير منها سابقًا للعثمانيين، إلا أن هذه السياسة أسهمت في تعزيز الاستقرار السكاني، وتحويل التجمعات التركمانية إلى قرى وبلدات دائمة.
الثاني عشر: سياسة التوطين العثمانية للتركمان
اتبعت الدولة العثمانية سياسة توطين منهجية تجاه القبائل التركمانية، استندت إلى اعتبارات عسكرية واقتصادية وإدارية. فقد رأت الدولة في التركمان عنصرًا موثوقًا يمكن الاعتماد عليه في حماية الطرق التجارية، وتأمين طرق الحج، وضبط المناطق الريفية والحدودية. وبموجب هذه السياسة، جرى إسكان القبائل التركمانية في مناطق استراتيجية، ولا سيما في شمال سورية وغربها ووسطها.
وشملت هذه السياسة توطين التركمان في السهول الخصبة والمناطق القريبة من الطرق الرئيسية، ومنحهم أراضي زراعية مقابل التزامهم بالخدمة العسكرية عند الحاجة. وقد أدى ذلك إلى تحوّل كثير من القبائل التركمانية من نمط الحياة الرعوية المتنقلة إلى الاستقرار الزراعي، مع احتفاظ بعضهم بعناصر من البنية القبلية التقليدية.

الثالث عشر: تركمان سورية في ظل الانتداب الفرنسي (1920–1946)
الإطار العام والموقع الجغرافي
تركمان سورية خلال فترة الانتداب الفرنسي (1920–1946) كانوا جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي المتنوع في البلاد، وقد مرّوا بتجارب وتحديات مماثلة لبقية المكونات السورية، غير أنهم تميزوا بوصفهم جماعة إثنية تركمانية ذات خصوصية ثقافية وتاريخية متجذّرة. وقد تركز وجودهم الجغرافي في المناطق الشمالية والشمالية الغربية من سورية، ولا سيما في حلب وريفها، واللاذقية وريفها الشمالي، وحمص وريفها، إضافة إلى تجمعات أخرى متفرقة. وتميّزت بعض القرى التركمانية بقربها من الحدود التركية الحديثة التي تشكلت عقب انهيار الدولة العثمانية.
الوضع الاجتماعي والاقتصادي
غلب الطابع الريفي على المجتمع التركماني في سورية خلال فترة الانتداب الفرنسي، حيث اعتمدت الغالبية على الزراعة وتربية المواشي بوصفهما مصدرين رئيسيين للرزق. واستقر التركمان في قرى زراعية خصبة، ومارسوا نمط حياة بسيطًا قائمًا على موارد الأرض، مع تمسّك واضح بعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية والثقافية الموروثة، والتي شكّلت عامل تماسك داخلي في مواجهة التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد.
السياسة والهوية القومية
مع انهيار الدولة العثمانية وتقسيم المشرق العربي وفق اتفاقية سايكس – بيكو، وجد التركمان أنفسهم ضمن كيان سياسي جديد خاضع للانتداب الفرنسي. وفي هذه المرحلة، بدأت تتبلور مفاهيم جديدة للهوية الوطنية السورية، إلا أن التركمان لم يحظوا بتمثيل سياسي فعّال داخل مؤسسات الانتداب. ومع ذلك، كانوا معنيين، شأنهم شأن بقية السوريين، بقضية الاستقلال والتحرر الوطني، واندمجوا في الإطار العام للحركة الوطنية السورية المطالبة بإنهاء الاحتلال الفرنسي.
التعليم واللغة
فرضت سلطات الانتداب الفرنسي اللغة الفرنسية في مؤسسات التعليم والإدارة، غير أن التركمان حافظوا على لغتهم التركية (اللهجة التركمانية) كلغة تواصل أساسية داخل مجتمعاتهم المحلية. ورغم محاولات فرض الثقافة الفرانكفونية، ظلت اللغة والثقافة التركمانية حاضرتين بقوة في الحياة اليومية للتركمان، وفي علاقاتهم الاجتماعية والأسرية.
التحديات الثقافية وسياسات الانتداب
اتبعت سلطات الانتداب الفرنسي سياسة قائمة على تفتيت المجتمع السوري على أسس طائفية وإثنية، إلا أن التركمان تمكنوا، إلى حدّ كبير، من الحفاظ على هويتهم الثقافية واللغوية. ومع ذلك، واجهوا صعوبات في تعاملهم مع الإدارة الفرنسية، وتحديات ناتجة عن محاولات التهميش السياسي، وإنكار خصوصيتهم القومية ضمن الإطار الوطني العام.
النضال الثوري للتركمان ضد الانتداب الفرنسي
كان التركمان جزءًا لا يتجزأ من الحركة الوطنية السورية المناهضة للاحتلال الفرنسي، ولم يشكّلوا حركة منفصلة، بل انخرطوا في النضال العام إلى جانب العرب والأكراد وسائر المكونات السورية. وشاركوا في الاحتجاجات والمظاهرات والأنشطة السياسية، ولا سيما في المدن الكبرى كحلب.
كما شارك التركمان بفاعلية في الثورة السورية الكبرى (1925–1927)، وقدموا الدعم اللوجستي والمادي، وانخرط عدد كبير منهم في العمل المسلح ضد القوات الفرنسية، خاصة في ريف حلب والمناطق الشمالية. وأسهمت القرى التركمانية في احتضان الثوار وتأمين الإمدادات، وشكّلت بعض هذه المناطق ساحات مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال.
التنسيق مع الثوار السوريين
تميّز نضال التركمان بالتنسيق الوثيق مع القيادات الثورية السورية، حيث تشكلت لجان محلية في القرى والمدن التركمانية، وأسهمت في تنظيم المقاومة وتنفيذ الهجمات، والمشاركة في العصيان المدني. وكان هذا التنسيق جزءًا من جبهة وطنية موحدة هدفت إلى طرد الاحتلال الفرنسي وإقامة دولة سورية مستقلة.
دور الشخصيات والزعامات التركمانية
برزت خلال هذه المرحلة شخصيات تركمانية لعبت أدوارًا محورية في الكفاح الوطني، من أبرزهم المجاهد نورس سوخطة (نوراز آغا)، والمجاهد عمر البيطار المرتبط ارتباطًا وثيقًا بثورة الشيخ صالح العلي في الجبال الساحلية. كما لعب المجاهد هزاع أيوب دور ضابط الاتصال بين ثورة الشيخ صالح العلي والثورة في الشمال بقيادة إبراهيم هنانو، حيث كان هناك تعاون وثيق مع زعماء التركمان في الريف الشمالي لحلب، مثل الزعيم كال محمد مصطفى باشا، ومن بعده ابنه الزعيم حاج نعسان آغا، والمجاهد نويران آغا، وبولاد دشو وغيرهم.
قضية التمثيل السياسي وحادثة القبعات
شهدت فترة الانتداب الفرنسي رفض السلطات قبول تمثيل التركمان في البرلمان السوري بحجة أنهم "أتراك". وعلى إثر ذلك، تواصل رئيس عشائر التركمان في الشمال السوري آنذاك، الزعيم كال محمد مصطفى باشا، مع الجانب التركي، وجُلبت قبعات من مدينة غازي عنتاب ووزّعت على التركمان السوريين، في رسالة سياسية مفادها: إذا لم يُعترف بالتركمان كمواطنين سوريين، فإنهم سيُجبرون على اعتبار أنفسهم أتراكًا والانضمام إلى وطنهم الأم. ورغم رمزية هذه الحركة، فإن التركمان ظلوا متمسكين بتركمانيتهم وبوطنيتهم السورية في آن واحد.
القمع والاستشهاد واستمرار النضال
بعد فترة قصيرة من هذه الأحداث، ألقت سلطات الانتداب القبض على الزعيم كال محمد مصطفى باشا وشقيقه كال خليل مصطفى باشا، إلى جانب عدد من قادة التركمان، وتم اعتقالهم ثم تسميمهم داخل السجن، ما أدى إلى استشهادهم. وتولى بعد ذلك الزعيم حاج نعسان آغا قيادة العشائر التركمانية، وواصل النضال إلى جانب الزعامات العربية والكردية ضد الانتداب الفرنسي، لا سيما في مناطق جرابلس ومنبج وأعزاز.
كما كان للتركمان مآثر مشهورة في منبج ووقعة شيخ يحيى، حيث عوقبت القرى التركمانية الثائرة بحرق القرى والمحاصيل. وبرز دور تركمان اللاذقية بقيادة نورس آغا وسوخطة آغا، وتركمان الجولان بقيادة عيد آغا، في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وهو نضال امتد أثره لاحقًا إلى المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي بعد عام 1967.
الاستقلال وما بعده
مع جلاء القوات الفرنسية عام 1946، شارك التركمان في بناء الدولة السورية المستقلة، واندماجوا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ورغم محدودية توثيق نضالهم في كثير من الكتابات العربية اللاحقة، فإن إسهامهم شكّل جزءًا أصيلًا من تاريخ الكفاح الوطني السوري، وتميزوا بولائهم للوطن ورفضهم الدائم لأي شكل من أشكال العمالة أو الارتزاق.
الرابع عشر: التركمان في المدن والقرى السورية

لم يقتصر وجود التركمان في سورية على الريف والبوادي، بل استقر عدد كبير منهم في المدن الكبرى، حيث اندمجوا في الحياة الحضرية، وبرز منهم علماء، وقضاة، وتجار، وقادة عسكريون. وأسهم هذا الوجود الحضري في تفاعل ثقافي واجتماعي عميق بين التركمان وبقية مكونات المجتمع السوري.
وفي الوقت نفسه، حافظت القرى التركمانية على طابعها الثقافي الخاص، من حيث اللغة والعادات والتقاليد، ولا سيما في المناطق الشمالية مثل ريف حلب وريف اللاذقية، حيث ظلّت اللغة التركمانية متداولة حتى فترات متأخرة.
الخامس عشر: التركمان في حلب
تُعدّ مدينة حلب من أهم مراكز الوجود التركماني في سورية. فقد استقر التركمان في المدينة وريفها منذ العصور الإسلامية المبكرة، وتعزز وجودهم خلال العهدين السلجوقي والعثماني. وأسهم التركمان في الحياة الاقتصادية لحلب، ولا سيما في التجارة والصناعات الحرفية، كما برز منهم علماء وأدباء وشخصيات سياسية.
وكان لريف حلب الشمالي والشرقي حضور تركماني كثيف، حيث استقرت قبائل كاملة في القرى المحيطة بالمدينة، وأسهمت في تأمين طرق التجارة بين الأناضول وبلاد الشام.
السادس عشر: التركمان في حمص
تعود جذور الوجود التركماني في حمص إلى العصور الإسلامية الوسطى، حيث استقر عدد من القبائل التركمانية في المدينة وريفها، ولا سيما خلال العهدين الأيوبي والمملوكي. وقد لعب التركمان دورًا مهمًا في الحياة العسكرية والإدارية للمدينة، وبرز منهم أمراء وقادة.
كما شهدت حمص استقرار عدد من العائلات التركمانية التي اندمجت في النسيج الاجتماعي للمدينة، وأسهمت في الحياة الدينية والعلمية.
السابع عشر: التركمان في حماة
استقر التركمان في مدينة حماة وريفها منذ فترة مبكرة، وازداد وجودهم خلال العهد العثماني. وقد شاركوا في النشاط الزراعي، وأسهموا في حماية المناطق الريفية المحيطة بالمدينة. كما برزت في حماة عائلات تركمانية لعبت أدوارًا سياسية وإدارية مهمة.
الثامن عشر: التركمان في دمشق
شكّلت دمشق مركزًا مهمًا لاستقرار التركمان، ولا سيما أولئك الذين التحقوا بالمؤسسة العسكرية أو بالإدارة العثمانية. وقد اندمج التركمان في المجتمع الدمشقي، وبرز منهم علماء وقضاة وتجار، وأسهموا في الحياة الثقافية والاقتصادية للمدينة.
كما استقر عدد من العائلات التركمانية في أحياء دمشق القديمة، واحتفظ بعضها بوعيها بأصولها التركمانية، رغم اندماجها الكامل في المحيط العربي.
التاسع عشر: التركمان في اللاذقية وطرطوس
تركّز الوجود التركماني في الساحل السوري، ولا سيما في اللاذقية وريفها، حيث استقرت قبائل تركمانية منذ العهد السلجوقي، وتعزز وجودها في العهد العثماني. وقد لعب التركمان دورًا مهمًا في حماية الساحل، وفي النشاط الزراعي، خصوصًا زراعة الحبوب وتربية المواشي.
العشرون: التركمان في الجولان
كان للتركمان وجود ملحوظ في منطقة الجولان، حيث استقرت قبائل تركمانية في عدد من القرى، وأسهمت في الزراعة وتربية المواشي. وقد تعرض هذا الوجود لضرر بالغ بعد احتلال الجولان عام 1967، ما أدى إلى تهجير عدد كبير من التركمان، وفقدانهم لقراهم وممتلكاتهم.
مناطق توزّع التركمان في سوريا
أولًا: التوزّع الجغرافي
يتوزّع التركمان في سوريا على رقعة جغرافية واسعة تمتد من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، ويتركّز وجودهم في المدن الكبرى وفي القرى والأرياف، ويمكن تحديد مناطق انتشارهم على النحو الآتي
محافظة حلب: يتركّز التركمان في مناطق منبج، والباب، وجرابلس، وجوبان باي (الراعي)، وأعزاز، ومارع. ويبلغ عدد القرى التركمانية في ريف حلب الشمالي نحو 145 قرية تركمانية. أما في مدينة حلب، فيسكن التركمان في أحياء: الهلك، وبستان الباشا، والحيدرية، والأشرفية، وقاضي عسكر.
محافظة الرقة وتل أبيض: يوجد نحو 20 قرية تركمانية.
محافظة حمص: تشكّل الأسر ذات الأصول التركمانية في مدينة حمص نسبة تقارب 65% من سكان المدينة، وفي الريف يوجد نحو 57 قرية تركمانية.
محافظة حماة: يتركّز وجود التركمان في مناطق مصياف وسلمية، ويبلغ عدد القرى التركمانية نحو 30 قرية.
محافظة طرطوس: يوجد نحو 5 قرى تركمانية.
محافظة القنيطرة (الجولان المحتل): كان يوجد نحو 20 قرية تركمانية، تعود في أصلها إلى جماعة تركمانية بلغ عددها قرابة خمسة آلاف نسمة، وكانوا يتوزّعون على قرى الجولان قبل احتلاله من قبل إسرائيل عام 1967، حيث قام الاحتلال بطرد معظم السكان السوريين باستثناء الدروز.
محافظة إدلب: في منطقة جسر الشغور يوجد 5 قرى تركمانية، إضافة إلى حارة للتركمان في مركز مدينة جسر الشغور.
محافظة درعا: يوجد نحو 13 قرية تركمانية.
محافظة دمشق: يوجد 5 قرى تركمانية في ريف المحافظة، وفي مدينة دمشق نفسها تتوزّع مجموعات من التركمان في أحياء القدم، والبرزة، وحجر الأسود، وسيدة زينب، وهم في غالبيتهم من نازحي الجولان الذين فقدوا أراضيهم بعد عام 1967.
محافظة اللاذقية: يتركّز التركمان في القسم الشمالي من المحافظة، قرب الحدود التركية، في منطقة رأس البسيط ومرتفعات الباير، حيث يوجد نحو 70 قرية تركمانية، إضافة إلى حارتين تركمانيتين في مدينة اللاذقية: حي علي الجمال، وحي الرمل الشمالي.
ثانيًا: الخصائص السكانية والاجتماعية
يتوزّع التركمان في سوريا بين تجمعات سكنية ذات طابع مدني وأخرى ريفية. ويعمل التركمان في الأرياف بالزراعة وتربية الحيوانات، في حين يغلب العمل الحر والوظيفة العامة على التركمان المقيمين في المدن، ولا سيما في دمشق. ويُذكر أن معظم التركمان الذين استقروا في المدن كانوا في فترات سابقة يعملون في الرعي، ثم انتقلوا تدريجيًا إلى الزراعة والاستقرار.
يدين التركمان في سوريا بالإسلام، ويتبع نحو 99% منهم المذهب السني الحنفي، مع وجود نسبة قليلة من الشيعة العلوية التركمانية في مدينة حلب فقط، وهي لا تمتّ بصلة إلى العلوية النصيرية العربية.
وتُعدّ سوريا، شأنها شأن العراق، بلدًا متعدد القوميات والطوائف والمذاهب، حيث تعيش إلى جانب القوميات الأساسية العربية والتركمانية والكردية، قوميات أخرى مثل الآشورية، والأرمنية، والشركسية، والداغستانية، والشيشانية، والسريانية، إضافة إلى أعداد قليلة من الألبان (الأرناؤوط) والبوسنيين (البوشناق).
ثالثًا: التركمان بين المدينة والريف
يميّز السوريون عادةً بين التركمان والأتراك، رغم انتمائهم جميعًا إلى الأصول التركية. وينقسم التركمان في سوريا من حيث نمط الاستقرار إلى نوعين:
التركمان الذين يقطنون في المدن، ويُطلق عليهم في الوعي الشعبي صفة «الأتراك»، وهم في الأصل أسر تركمانية.
التركمان الذين يعيشون في القرى والأرياف المنتشرة في مختلف المناطق السورية، ويُطلق عليهم صفة «التركمان».
وقد أدّت الضغوط السياسية الشوفينية، ولا سيما في ظل الأنظمة البعثية، إضافة إلى الاختلاط والتزاوج والاندماج الثقافي، إلى نسيان أو تجاهل عدد كبير من العائلات التركمانية في المدن لأصولها القومية. ومع ذلك، ما تزال عائلات تركمانية كثيرة تحتفظ بلغتها وهويتها القومية وتعتزّ بها.
رابعًا: السمات الثقافية والاجتماعية
يتميّز التركمان بالشفافية، وعدم التعصّب القومي الشوفيني، وبالتديّن والاندماج في الحياة العامة. وقد نبغ من بينهم شعراء وكتّاب ومفكّرون وسياسيون ورجال دولة، مثل: البخاري، ومسلم، وابن النفيس، والرازي، والفارابي، وجميعهم من أصول تركية أو تركمانية.
ويظهر تأثير التركمان والأتراك في الحياة الاجتماعية السورية بوضوح من خلال المفردات التركية في اللهجة العامية، وتأثّر الفلكلور، والعادات والتقاليد، إضافة إلى أن كثيرًا من المأكولات والحلويات الشامية ذات أصل تركي من حيث الاسم والوصفة.
خامسًا: الشخصيات والعائلات التركمانية
برزت شخصيات تركمانية مؤثرة في التاريخ السوري الحديث، من أبرزهم: الشهيد يوسف العظمة، ونور الدين الأتاسي، وهاشم الأتاسي، وشكري القوتلي، والعماد حسن التركماني.
ويُعدّ التركمان من أكبر الأقليات في المدن السورية، ويُستدل على ذلك بالمثل الشعبي في مدينة حمص: «اللي مانو تركماني يروح يدور على أصلو»، في إشارة إلى كثرة الأسر ذات الأصول التركمانية.
الحادي والعشرون: التركمان في العصر الحديث
مع دخول سورية العصر الحديث، واجه التركمان تحديات تتعلق بالهوية والتمثيل السياسي. وخلال فترة الانتداب الفرنسي، شارك التركمان في المقاومة الوطنية، وبرز منهم مناضلون وقادة محليون أسهموا في الكفاح ضد الاحتلال.
الثاني والعشرون: التركمان بعد الاستقلال
بعد الاستقلال، اندمج التركمان في الدولة السورية الحديثة، وشاركوا في مؤسساتها العسكرية والمدنية. إلا أن السياسات القومية السائدة أدت إلى تراجع استخدام اللغة التركمانية، وتهميش البعد القومي في الخطاب الرسمي، ما انعكس على الوعي الهوياتي لدى الأجيال اللاحقة.
الثالث والعشرون: التركمان والهوية القومية
يتميز التركمان في سورية بتمسكهم بهويتهم الثقافية، مع ولاء وطني واضح للدولة السورية. وقد حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم، رغم عوامل الاندماج والذوبان الثقافي. ويُعد الحفاظ على اللغة والتراث من أبرز التحديات التي تواجههم في العصر الراهن.
الرابع والعشرون: العائلات التركمانية في سورية
أولًا: العائلات التركمانية في مدينة حمص
تُعدّ مدينة حمص من أبرز المدن السورية التي تضم عددًا كبيرًا من العائلات التركمانية التي استقرت فيها منذ العصور الإسلامية المختلفة، ولا سيما خلال العهدين الأيوبي والعثماني. ومن أبرز هذه العائلات
أسرة الحسيني، التركماني، الوفائي، العطائي (وهما فرعان من أصل واحد ينتسبون إلى جدهم العالم عمر بن يوسف البقراصي التركماني)، آل الأتاسي (وهم من أصول تركمانية، قدم جدهم الشيخ الصوفي علي الأتاسي من الأناضول)، الصوفي، بلّي الصوفي (وأصلها بالي الصوفي)، الطظقلي (الطوزوقلي)، الدالاتي، الرئيس (ويُعرفون أيضًا بآل قريعي)، عساف (وهم من أمراء التركمان، ومنهم الأمير منصور عساف)، قندقجي، السطلي، الترك، خوجة، الشرفلي، شمسي باشا، الأمين، بالي، دندشي، كاخيا (كيخيا)، النكدلي، ماميش، محلي، الخزندار، كيشي، الطرزي، الجوخدار، رمضون، عجو، سوادية، جانسيز، قوتلي، حاميش، سلور، شهرلي، بلحوس، دكانجي، أبو لبن، كهيا، بايرلي، كرياعي، الشمالي، قصاب، برق، عجه أوغلان، بزارباشي، نابو، عبد الدايم، عمران، دالي عثمان، كوجوك، كوجك، باكير، قاروت، قاضي، البرقصي، طورن، جلبي، أطماز، طاش، سيواسلي، أخرس، أشكلي، الحلو، حاميش، وغيرها من العائلات ذات الجذور التركمانية.
ثانيًا: العائلات التركمانية في مدينة حلب

تُعدّ حلب من أهم مراكز الوجود التركماني في سورية، وقد استقرت فيها عائلات تركمانية عديدة منذ العصر السلجوقي وما بعده. ومن أبرز هذه العائلات
المدرّس، كاخيا (كيخيا)، مرعشلي، قوجة، مارديني (مع التنبيه إلى أن بعض من يحمل هذا الاسم من الأكراد)، مارديللي، إزميرلي، قره أوزون، قره، آل باكير، التركماني، توركماني، البابي، البالي الغُزي، الكواكبي (وهم من أصل تركماني قدموا من أردبيل)، شهبندر، بصمجي، أتش أوغلو، كتخدا، أغا، باشا، سلور، جلبي، مصطفى باشا، قرقناوي، عطري، دلاتي، كركوكلي، بازراباشي، دلالباشي، محلي، برق، كللو، رشيد، يغان، صاري، صاري غوزال، كال محمد، أشجي، غوزال، نسيمي، حيدر، برجيكلي، دشو، بايديلي، طوقوز، كلسلي، جاويش، ألتنجي، قاطرجي، يوزقاطلي، كيالي، يوزباشي، قرقين، وغيرها.
ثالثًا: العائلات التركمانية في مدينة حماة
استقر التركمان في مدينة حماة وريفها منذ فترات مبكرة، ومن أبرز العائلات التركمانية فيها
آل العظم، الشرابي، الشيشكلي (الجيجكلي)، السراج، الغُزّي، المعصرجي، الأظن (الأوزون)، كوجان، قاروط، قبّش (إيبش)، كوجك (كوجوك)، قاسم، الدالي، عثمان، رجب، قوجة، خورشيد، قندقجي، الباك، الطرون (طورون).
رابعًا: العائلات التركمانية في مدينة دمشق
احتضنت دمشق عددًا كبيرًا من العائلات التركمانية التي لعبت أدوارًا سياسية وإدارية ودينية بارزة. ومن أبرز هذه العائلات
آل العمادي، المرادي، العظم، العظمة (وهم من آل التركماني، أسسها حسن بك التركماني القادم من قونية)، أقريبوز، أقبيق، عجلكين، إلجي، إيبش، بوغا (الحسيني)، بغداش، بيازيد، ترزي، شيباني، تللو، تمير أغا، تركماني، دمير، جوخدار، جولاق، خوجة، قوجة، دلاتي، درغيل، دواجي، رهوانجي، زنكي، طرابزونلي، إزميرلي، أورفالي، مارديني، طوقاطلي، أرزورملي، اسطنبولي، مورالي، شربتجي، قرابتق، كنج عثمان، مرده بيك، ملاطيالي، نقشبندي، أوزون، داغستاني، دوقماق، وغيرها.
خامسًا: العائلات التركمانية في مدينة اللاذقية
تركّز الوجود التركماني في اللاذقية وريفها منذ العهد السلجوقي، ومن أبرز العائلات التركمانية فيها:
تركماني، مطرجي (من طرابزون)، شاهين، غنج، صباهي، سراج، أوسطى، ساعي، جعارة، أصلان، أرسلان، عرقاوي، سليت، صاري، سلور، أوشار، جمل، ملا، أغا، قلعجي، بكداش، دنورة، هارون، شريطح، باشا، قبلاوي/قبولاي، صابوني، قورقماز، يوزباشي، وغيرها.
الخامس والعشرون: الهوية والانتماء
يولي التركماني الإسلام أولوية على القومية، وهو شديد الارتباط بالأرض التي يقيم عليها ويعدّها وطنًا له منذ لحظة استقراره فيها. ويتميّز بعدم التعصّب القومي الأعمى، مع اعتزازه بهويته. إلا أن السياسات الشوفينية البعثية في سوريا والعراق أسهمت في تهميش الوجود التركماني، وتعريب أسماء القرى، ومنع إحياء التراث القومي، ما أضعف التماسك الهوياتي وأدّى إلى ذوبان قسم من التركمان في القومية العربية.
ومع ذلك، بقي التركمان معروفين بالوفاء للوطن، واحترام الآخر، وحب الضيافة، وتربية الأبناء على القيم الأخلاقية، والدفاع عن الأرض، والاستعداد للتضحية في الملمات. ويُقدَّر عدد التركمان في سوريا بنحو 3.5 ملايين نسمة، منهم نحو 1.5 مليون ما زالوا يتقنون اللغة التركمانية.
ويجمع تركمان سوريا مع سائر مكوّنات الشعب السوري رابط الانتماء إلى الوطن والدفاع عنه، وهم جزء لا يتجزأ من نسيجه الاجتماعي، وسيبقون عنصر وحدة وبناء، في سبيل مجتمع إنساني حضاري قائم على المساواة والاعتراف الدستوري بجميع القوميات، العربية والتركمانية والكردية وغيرها.
في الخاتمة يؤكد هذا البحث، من خلال استعراض تاريخي وتحليلي موثّق للجذور التاريخية للتركمان في سوريا، أن هذا المكوّن لم يكن يومًا طارئًا أو هامشيًا، بل شكّل حضورًا قوميًّا راسخًا ارتبط بالأرض السورية وبالدفاع عنها وبالمصير الوطني المشترك منذ قرون طويلة. فقد أسهم التركمان، عبر مختلف العصور الإسلامية، في البنية السكانية والعسكرية والسياسية لبلاد الشام، وكان لهم دور فاعل في حماية حدودها، وفي مواجهة الغزوات الخارجية، وفي المشاركة في بناء مؤسسات الدولة في مراحلها المتعاقبة.
ويُظهر البحث بوضوح أن التركمان السوريين كانوا جزءًا لا يتجزأ من الحركة الوطنية السورية الحديثة، وشاركوا بوعي ومسؤولية في مقاومة الاستعمار الفرنسي، وقدموا تضحيات جسيمة في سبيل استقلال سوريا ووحدتها وسيادتها. ولم يكن نضالهم الوطني منفصلًا عن انتمائهم القومي، بل تداخل معه في إطار رؤية واضحة تعتبر أن الدفاع عن الهوية الثقافية واللغوية هو أحد أشكال المقاومة، وأن استقلال سوريا كان ولا يزال الضامن الحقيقي لصون هذه الهوية ضمن دولة وطنية جامعة.
كما يكشف هذا العمل عن حجم التهميش والإقصاء الذي تعرّض له التركمان في بعض السرديات التاريخية والسياسية اللاحقة، سواء عبر تغييب أدوارهم النضالية، أو عبر اختزال حضورهم في مقاربات ضيقة لا تستند إلى البحث العلمي الرصين. وقد أدى هذا التهميش إلى إضعاف الذاكرة الوطنية الجامعة، وإلى حرمان التاريخ السوري من أحد مكوّناته الأساسية، الأمر الذي يستدعي إعادة قراءة نقدية منصفة للتاريخ، قائمة على التوثيق والتحليل، لا على الإقصاء أو الانتقاء.
ويؤكد البحث أن التمسك بالهوية التركمانية لم يكن يومًا نقيضًا للهوية الوطنية السورية، بل كان أحد روافدها، وأن محاولات تصوير التركمان كجسم غريب أو كأداة خارجية تفتقر إلى أي أساس تاريخي أو علمي. فالتركمان كانوا، وما زالوا، شركاء كاملين في النضال من أجل الحرية والاستقلال، وفي بناء المجتمع السوري، وفي الدفاع عن وحدة البلاد وكرامتها.
وانطلاقًا من ذلك، فإن إنصاف التركمان في التاريخ السوري لا يُعدّ مطلبًا فئويًا أو قوميًّا ضيقًا، بل ضرورة وطنية ومعرفية وأخلاقية، تفرضها متطلبات بناء دولة حديثة قائمة على المواطنة المتساوية، والعدالة التاريخية، والاعتراف المتبادل بين جميع مكوّنات المجتمع. فالدولة الوطنية لا تُبنى على ذاكرة مبتورة، بل على سردية تاريخية جامعة تُنصف جميع من أسهموا في صنعها.
وعليه، يدعو هذا البحث إلى توسيع نطاق الدراسات الأكاديمية المتخصصة حول التركمان السوريين، وإلى إدماج تاريخهم ونضالهم ضمن المناهج التعليمية والبحثية، بوصفهم مكوّنًا أصيلًا وشريكًا كاملًا في صياغة التاريخ السوري، وفي بناء مستقبله على أسس من الوحدة الوطنية، والكرامة، والعدالة، والاعتراف الصريح بتضحيات جميع أبنائه.
المراجع والمصادر
المراجع العربية
ابن عساكر، تاريخ دمشق.
ابن الأثير، الكامل في التاريخ.
ابن شداد، الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة.
القاضي عماد الدين الأصفهاني، البرق الشامي.
أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن بطوطة، رحلة ابن بطوطة.
ابن خلكان، وفيات الأعيان.
الغرديزي، زين الأخبار.
المروزي، طبائع الحيوان.
المقدسي البشاري، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم.
رشيد الدين فضل الله الهمذاني، جامع التواريخ.
منيرسكي، فلاديمير، دراسات في تاريخ التركمان والغز.
فامبري، آرمنيوس، تاريخ آسيا الوسطى.
جيرار دوجرج، دمشق لؤلؤة الشرق وملكته.
وثائق ومرويات شفوية من شيوخ العشائر التركمانية في شمال سورية.
الزركلي، خير الدين، الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء، دار العلم للملايين، بيروت.
حلاق، مصطفى، تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، دار الفكر، دمشق.
القوتلي، شكري، مذكرات شكري القوتلي، دار الطليعة، بيروت.
الأتاسي، نور الدين، سوريا بين الأمس واليوم، دمشق.
دراسات وأبحاث مركز تركمان إيلي للدراسات السياسية والاستراتيجية.
المراجع التركية
Sümer, Faruk, Oğuzlar (Türkmenler): Tarihleri, Boy Teşkilatı, Destanları, Türk Tarih Kurumu Yayınları, Ankara.
Sümer, Faruk, Türkmenler: Tarihleri ve Kültürleri, Ankara.
Mustafa, Faruk, Osmanlı İmparatorluğu Döneminde Aşiretlerin İskân Politikası (إسكان العشائر في عهد الإمبراطورية العثمانية), İstanbul.
مراجع عامة وأجنبية
Cahen, Claude, La Syrie du Nord à l'époque des Croisades, Paris.
Lewis, Bernard, The Emergence of Modern Turkey, Oxford University Press.